معركة "ردع العدوان" في سوريا- قراءة في الأهداف والتداعيات المحتملة

أذهلت قوى المعارضة السورية الأوساط المحلية والدولية بإطلاق ما أسمته "معركة ردع العدوان"، وذلك بعد فترة طويلة من الركود النسبي في المشهد السوري على الصعيدين العسكري والسياسي. هذه الخطوة تأتي في أعقاب محاولات تركية متقطعة لتطبيع العلاقات مع النظام، والتي قوبلت بتحفظ وتمنع من جانب بشار الأسد ونظامه.
المحللون والمراقبون تناولوا هذا الحدث والتطورات الأخيرة بتفسيرات مختلفة، بل ومتضاربة أحيانًا، فيما يتعلق بالأهداف والنتائج المحتملة. ومع ذلك، من البديهي أن أهداف العملية قد تتغير وتتطور تبعًا للتطورات الميدانية، ومواقف الأطراف الفاعلة، وإمكانياتها، وحساباتها الاستراتيجية.
ومع ذلك، أرى أنه من الضروري التأكيد على بعض الثوابت والحقائق التي لا يمكن تجاهلها عند تحليل المشهد، خاصة لمن يسعى إلى تحكيم العقل والمنطق، وتجنب الانفعالات والأهواء الشخصية. ومن بين هذه الحقائق:
أولًا، الملف السوري قد خرج عن سيطرة السوريين أنفسهم، سواء كانوا في المعارضة أو في النظام، منذ سنوات عديدة. فالسوريون، للأسف الشديد، هم الأقل تأثيرًا والأقل نفوذًا في تحديد مصير ومستقبل بلادهم. تطورات الملف السوري تخضع بشكل كبير لإرادات الدول الفاعلة وقواتها المتواجدة على الأرض (بما في ذلك الميليشيات التابعة لها)، وأدواتها، وحساباتها المختلفة. هذه الدول الفاعلة تشمل (مع تفاوت في الحضور والتأثير): إسرائيل، وتركيا، وروسيا، وإيران، والولايات المتحدة.
ثانيًا، سوريا جزء من منطقة أوسع يُراد إعادة تشكيلها، وربما تقسيمها إلى كيانات أصغر (كما حدث ويحدث في العراق والسودان واليمن). هذا الطرح ليس سرًا، فقد صرح به علنًا بنيامين نتنياهو، وكذلك دونالد ترامب، الرئيس المحتمل القادم للولايات المتحدة.
ثالثًا، تركيا تعتبر الدولة الأقرب إلى السوريين، وهي تتحمل العبء الإنساني الأكبر في معاناتهم. لا يمكن لهذه العملية العسكرية الأخيرة، والتي جمعت أطرافًا كانت متنافسة بالأمس، أن تحدث دون توجيه ودعم وإسناد تركي. ومع ذلك، ليس من السهل تحديد الدوافع والأهداف الحقيقية لهذه المعركة بدقة، على الرغم من أن هذه الأهداف ستتضح وتنكشف مع مرور الوقت.
يرى بعض المحللين أن معركة "ردع العدوان" استلهمت فكرة المباغتة من عملية "طوفان الأقصى"، من خلال توجيه ضربة مفاجئة لقوات النظام في عملية استباقية. كما استفادت المعارضة من الخلافات الظاهرة في المواقف بين إيران وحزب الله من جهة، ونظام بشار الأسد من جهة أخرى.
لقد أظهر النظام، في مواجهة العدوان الإسرائيلي على لبنان، وكذلك في كارثة غزة، مواقف أقرب إلى الحياد السلبي، بدلًا من تقديم أي دعم أو مساندة لحلفائه (حزب الله)، الذين دعموا حربه الوحشية ضد الشعب السوري.
يعتقد أصحاب هذا الرأي أن المعارضة حققت وستحقق مكاسب كبيرة في هذه المعركة، والتي ستنعكس بشكل إيجابي على مسار التسوية السياسية. وستفيدها في ذلك التطورات الأخيرة، وتراجع نفوذ حزب الله، وانسحابه المهزوم من "وحدة الساحات"، وخلافاته المتزايدة مع الإيرانيين والنظام السوري.
بالإضافة إلى ذلك، فإن انشغال روسيا بالحرب في أوكرانيا يسمح للمعارضة السورية، من خلال هجومها المباغت ونتائجه المحتملة، بإعادة صياغة القضية السورية برمتها. وإذا نظرنا إلى الأمور بتفاؤل مفرط، فقد ينتهي الأمر بإنهاء حكم النظام السوري، مع ما يراه البعض نهاية لدوره ونفوذه في المنطقة.
في المقابل، يرى المتشائمون أن هذه التحركات لا تخدم مصالح السوريين بقدر ما تخدم مصالح قوى إقليمية أخرى. ويرون أن ما يحدث هو فخ منصوب للمعارضة السورية، سيؤدي إلى إلغاء جميع التفاهمات السابقة، وسيمهد الطريق لتسوية مجحفة تُفرض بالقوة على أرض الواقع، وقد تشمل عودة المناطق "المحررة" إلى سيطرة النظام، من خلال توافقات بين الأطراف الفاعلة في الملف السوري.
يستهين هؤلاء المتشائمون بمن يعلق آمالًا على الانشغال الروسي والإيراني. فهم يؤكدون أن الطرفين قادران، بفضل ما يمتلكانه من ترسانة صواريخ متطورة، على تحويل الشمال المحرر إلى منطقة شبيهة بقطاع غزة من حيث الدمار والخراب، مستغلين القبول العالمي، أو التعايش معه، للإجرام الإسرائيلي.
الدول ذات النفوذ لديها مصالح خاصة فيما يحدث. فتركيا تسعى إلى الضغط على النظام، بينما الولايات المتحدة والدول الغربية، وربما بموافقة ضمنية من الحكومة الإسرائيلية، ترغب في استغلال النزاعات الطائفية والإثنية (في سوريا والعراق ولبنان وغيرها) لإعادة رسم خارطة المنطقة، بهدف تشكيل دويلات طائفية تتناغم مع مشروع "إسرائيل الكبرى". هذا المشروع يعلنه ويكرره قادة الاحتلال، وعلى رأسهم بتسلئيل سموتريتش، وإيتمار بن غفير.
يربط أصحاب هذا الرأي بين ما يُطرح من تهجير للفلسطينيين من الضفة الغربية وقطاع غزة، وإعادة تشكيل المنطقة، مع ما يحدث حاليًا في سوريا. ويرون أن إسرائيل قد تستغل أي وقف لإطلاق النار في لبنان لإطلاق يدها في سوريا، وملاحقة حزب الله والنفوذ الإيراني، ربما بالتنسيق مع روسيا، خاصة وأن الاتفاق الأخير لا يشمل سوريا بطبيعة الحال.
لن يمر وقت طويل حتى تتضح معالم الصورة بشكل كامل، ولكنني على يقين من أن شعوبنا المغلوبة على أمرها ستدفع أثمانًا باهظة نتيجة لهذه الصفقات السياسية والترتيبات الأمنية، التي تتجاهل حقوقها ومعاناتها، ولا تضع في الحسبان مصائرها ومستقبلها.
كما أن غياب قيادة حقيقية في المعارضة السورية، تجمع بين الرؤية السياسية الاستراتيجية، والإخلاص في خدمة الشعب السوري، وتقديم المصلحة العامة على المصالح الشخصية والحسابات الفئوية والحزبية الضيقة، كان ولا يزال يعمق من معاناة السوريين، ويدفع بمستقبلهم نحو المجهول.